20
شوال
1445 هـ
28
ابريل
2024 م

في معنى قوله تعالى: (شهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم)

line
تاريخ النشر: 2020-08-15 14:31:47
المشاهدات: 346

عناصر الخطبة

1/ الجوارح تفضح العاصين يوم القيامة 2/ مشهد حشر المجرمين إلى جهنم 3/ حشر المتكبرين كأمثال الذر يطؤهم الناس بأقدامهم 4/ الكبر أول ما عصي به الله تعالى 5/ شهود الجوارح على صاحبها 6/ المؤمن يحسن الظن بربه، والكافر والمنافق يسيء الظن

اقتباس

إن هذه الآيات العظيمة من سورة فصلت تعرض مشهدًا رهيبًا مما يكون في يوم القيامة، تكاد النفس فيه تذوب من الخجل والفضيحة، وهو مشهد لو تدبره كل عاصٍ لله -بل لو تدبره كل إنسان- فإنه ما من أحد إلا وهو يعصي ويخطئ، لو تدبره كل منا بحضور قلب وتَذَكُّرِ ذَنْبٍ لكان رادعًا لنا عن كثير من الرذائل؛ إذ لا يحسب أحد أن يفعل فعلاً أو ينطق بكلام تشهد عليه به أعضاؤه يوم القيامة وتفضحه .

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله..

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70، 71].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

أيها المسلمون: يقول الله -عز وجل- في كتابه الكريم: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت: 19-24].

إن هذه الآيات العظيمة من سورة فصلت تعرض مشهدًا رهيبًا مما يكون في يوم القيامة، تكاد النفس فيه تذوب من الخجل والفضيحة، وهو مشهد لو تدبره كل عاصٍ لله -بل لو تدبره كل إنسان- فإنه ما من أحد إلا وهو يعصي ويخطئ، لو تدبره كل منا بحضور قلب وتَذَكُّرِ ذَنْبٍ لكان رادعًا لنا عن كثير من الرذائل؛ إذ لا يحسب أحد أن يفعل فعلاً أو ينطق بكلام تشهد عليه به أعضاؤه يوم القيامة وتفضحه على رؤوس الخلائق، فهو اليوم الذي ينزع الله فيه عن أصحاب الثياب المزيفة ثيابهم؛ ليظهروا في صورتهم الحقيقية، لا يستتر شيء منهم عن الله ولا عن الناس، حتى نواياهم.

فإذا خشي المؤمن العاقل ذلك الموقف انتهى عن كل انحراف، فالقاصد إلى المحرمات ينتهي عن قصده، والسادر في الشهوات والفجور ينتهي عن زللـه، والكاذب ينتهي عن كذبه، والقاذف للناس بما ليس فيهم، والمغتاب والنمام، ينتهي عن قذفه وغيبته ونميمته، والثرثار ذو اللغو المخلط في كلامه ينتهي عن ثرثرته، بل ربما آثر الصمت لينجو من ذل ذلك اليوم ولم يتحدث على الإطلاق، إلا فيما مست إليه الحاجة الشرعية، وينتهي المرائي عن ريائه، ومن لم ينته فحسبه فضيحة ذلك الموقف ورهبته، وتكفيه تلك الشهادة القاسية عليه من نفسه: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت:19].

أتدرون كيف يوزعون؟! هل رأيتم سائق الغنم وهو يسوق غنمه ويهش عليها بعصاه ليضم بعضها إلى بعض ويجمع آخرها على أولها، هل رأيتم منظر ذلك القطيع؟! فهكذا يساق أصحاب النار إليها، يوزعون بأن تجمع الزبانية أولهم على آخرهم في ذلة ومهانة أشد وأسوأ حالاً من الغنم؛ إذ الغنم ينتهي سوقها إلى ماء يُذهِب عطشها، أو مرعى ينهي جوعها، أما هؤلاء فيساقون عطاشًا إلى ما هو أدهى وأمر، فيصيبهم ألم النار وهولها بعد ألم المهانة والذلة والاحتقار كما في قوله تعالى: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا. وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا) [مريم: 85، 86].

فكما يُحشر المتقون وفدًا مكرمين في عزة وراحة وطمأنينة وسعة، لا يتكأكأ بعضهم على بعض، ولا يتعرض لهم أحد أثناء توجههم إلى الجنة، اللهم إلا أن يلقي إليهم الملأ الأعلى بالسلام: سلام عليكم طبتم فادخلوها، أو سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار، إذا بالمجرمين في المقابل يحشرون عطشى في تلك الصورة الحقيرة المزرية، ومما يدعو إلى العجب والتأمل أنه أثناء سوق هؤلاء المجرمين يكون بينهم رجال ضعاف وصغار جدًّا لا يتجاوز حجمهم حجم النمل، بل يكونون كأصغر النمل، يطؤهم الناس بأقدامهم، هل تدرون من هؤلاء؟! إنهم المتكبرون الذين أخبر عنهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "يحشر المتكبرون يوم القيامة كأمثال الذر في صور الرجال".

فالطواغيت المتجبرون الذين كانت تفسح لهم الطرقات، وتخلى لهم الأماكن، ويقام لهم الرجال كالأصنام، إذا بهم يوم الحشر يساقون كالنمل، يدوسهم الناس، لا يدرون عنهم أو لا يعبؤون بهم، وهل يهتم أحد وهو يمشي أو ينشغل بالنمل الذي تحته؟! فكيف إذا كان السائر في مشتغل رهيب وموقف كله كرب، فهل ينشغل بذلك النمل لاسيما مع الزحام، والزبانية تهشهم وتجمع بعضهم إلى بعض؟!

كذلك المتكبرون المتجبرون الذين استعبدوا الناس بمناصبهم، وظنوا أنهم أصبحوا آلهة، وانتفخوا في مكانهم ووزعوا نظرات الاحتقار وكلمات السباب على غيرهم من الآدميين، وآذوا عباد الله المؤمنين، هم أيضًا في ذلك الذر ومع هذا النمل أصحاب المآكل والمشارب والترف، الذين يستهزئون بالفقراء، هم أيضًا مع ذلك النمل -إن شاء الله- يطؤهم الناس بأقدامهم.

وهكذا كل متكبر مهما كان نوعه، سواء أكان كبره بجاهه، أم منصبه، أم كان بجسمه وصورته، أم بماله وقوته، أم بعلمه وعبادته، بل الأخير يعاقب على كبره وبالإضافة إلى ذلك يحبط عمله الصالح، فيجتمع عليه الشر ولا يبقى له خير، كما في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- أن رجلاً قال: "والله لا يغفر الله لفلان. فقال الله: قد غفرت له وأحبطت عملك". فأحبط الله عمله لغروره وكبره.

وقال –صلى الله عليه وسلم–: "احتجت الجنة والنار، فقالت الجنة: يدخلني الضعفاء والمساكين، وقالت النار: يدخلني الجبارون والمتكبرون. فقال الله للنار: أنت عذابي، أنتقم بك ممن شئت. وقال للجنة: أنت رحمتي أرحم بك من شئت، ولكل واحدة منكما ملؤها"؛ (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [هود: 119].

وكما أن المتكبرين المتجبرين لهم صورة وهيئة خاصة بهم أثناء الحشر، فإن لهم عنقًا من النار يطلبهم بذاتهم، يقول -صلى الله عليه وسلم-: "يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان يبصران، وأذنان يسمعان، ولسان ينطق، يقول: إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلهًا آخر، وبالمصورين".

أيها المسلمون: آثرت الاستطراد في شأن المتكبرين أثناء الكلام على قوله تعالى: (وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) [فصلت:19]؛ لأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أخبرنا بتلك الهيئة التي ينفردون بها أثناء الحشر، فاقتضى ذلك أن نفرد لهم كلامًا يظهر معه سر تخصيصهم بتلك الهيئة -كأمثال الذر- أثناء الحشر، فالكبر -أيها المسلمون- من الصفات الشيطانية الإبليسية الأصيلة القديمة، وإبليس هو إمام المتكبرين، ومفتتح طريقهم، حين دفعه الكبر لمخالفة أمر الله: (إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ) [ص:74].

فالكبر أول ما عُصِيَ به الله، وهو بداية الفساد والشرور، ومن بعد إبليس كان أعداء الرسل يقولون: أَبَشَرٌ يهدوننا؟! فكم صد الكبر ناسًا عن الإيمان!! وكم صد أناسًا عن الاستجابة للدعاة!! وكم صد مخطئًا عن التراجع عن خطئه!! يزين ذلك إبليس للناس في صورة عزة النفس تارة، وفي صورة الاحتفاظ بالهيبة تارة، وفي صورة الثبات على المبادئ تارة، والمعصوم من عصمه الله -عز وجل-، ولا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من هذا الداء العضال.. أعاذنا الله وإياكم منه.

(وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ * حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [فصلت: 19، 20]، يعني إذا رأوا النار ووقفوا عليها (شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، وهذا هو الأمر الرهيب الذي من تذكره بات في هم وخوف وندم، فالأعمال التي قدمها كل واحد والتي أخرها كلها تنطق بها الأسماع والأبصار والجلود، لا يكتم منها حرف.

روى مسلم والنسائي وغيرهما عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنه قال: ضحك رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ذات يوم وتبسم، فقال -صلى الله عليه وسلم-: "ألا تسألوني عن أي شيء أضحك؟!"، قالوا: يا رسول الله: من أي شيء ضحكت؟! قال -صلى الله عليه وسلم-: "عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة، يقول: أي رب: أليس وعدتني أن لا تظلمني، قال: بلى، فيقول: فإني لا أقبل عليَّ شاهدًا إلا من نفسي، فيقول الله -تبارك وتعالى-: أوليس كفى بي شهيدًا، وبالملائكة الكرام الكاتبين؟! قال: فيردد هذا الكلام مرارًا: ويشاء الله أن يجعل الشاهد عليه نفسه"، قال -صلى الله عليه وسلم-: "فيختم على فيه وتتكلم أركانه -أي أعضاؤه- بما كان يعمل، فيقول: بعدًا لكُن وسحقًا، عنكن كنت أجادل". (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ) [النحل:111]، (يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [المجادلة:18]، فموقف يتكلم فيه المجرمون ويجادلون ويسألهم الله عن عملهم، وموقف لا يتكلمون فيه، وذلك حين يشرفون على النار، حيث لا يسألهم الله عن شيء، بل يُعرفون بسيماهم، فتأخذهم الزبانية تضم رأس أحدهم إلى قدميه فتقذفه في النار.

قال تعالى: (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [الحجر: 92، 93]، فهذا في بداية الموقف، ويقول تعالى: (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالأَقْدَامِ) [الرحمن: 39ـ41]، فهذا حين يشرفون على جهنم، أو أن السؤال المثبت سؤال التهكم والتوبيخ: لم عملتم كذا؟! ألم يأتكم رسل منكم؟! وهكذا… والسؤال المنفي: هو سؤال الاستعلام والاستخبار: ماذا عملتم؟! الذي يكون عن جهل من السائل، تعالى الله عن ذلك.

والمقصود أن جدال المجرمين لا يدوم، بل يختم على أفواههم، وينتهي جدالهم، وتشهد عليهم أنفسهم: (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ) [النور: 24، 25]، وكما قال -تبارك وتعالى- في سورة يس: (الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [يس:65].

قال بعض السلف: إن العبد بعد جداله وجحوده يربو لسانه في فمه، أي يزداد حجمه ويتضخم حتى يملأ فمه، فلا يستطيع أن ينطق بكلمة، ثم يقول الله لأعضائه كلها: تكلمي واشهدي عليه، فيشهد عليه سمعه وبصره وجلده وفرجه ويداه ورجلاه، صنعنا، عملنا، فعلنا.

يا للعار، ويا للخزي، ويا للفضيحة، تلك الأذن تشهد بما استمعت إليه من باطل ومن فحش، ومن لغو ومعازف وغناء، ومن غيبة وتناول للناس والأبرياء بما ليس فيهم، وتلك العين تشهد على صاحبها بكل نظرة محرمة، وتفضح صاحبها بخائنة الأعين التي تخفى على الناس في الدنيا ويزعم صاحبها أنه لا ينظر إلى محرم، ويزعم الآخر أنه لم ينظر لشهوة، ولكن حتى تلك النوايا المستورة ينكشف صاحبها يومئذ، واللسان يشهد بكل كذبة كذبها صاحبه وبكل افتراء واتهام اتهم به بريئًا، وبكل غيبة ونميمة وسب، وبكل تحريش وباطل ولغو، وبكل لقطة محرمة، أو كلمة محرمة من مقدمات الفاحشة، حتى الجلد الذي لا يتحرك يشهد بما ناله من مس محرم، والفرج يشهد بكل عدوان جناه صاحبه، والرجل تشهد بكل خطوة خطتها لشر، وكل محرم تلبست به.

وهذه اليد التي تقوم بالعديد من الأعمال، ولا توجد آلة في العالم تقوم بمختلف الأعمال التي تقوم بها اليد، هذه اليد تشهد على صاحبها بكل أخذ لا يجوز له أخذه، وبكل مس أو إمساك بما لا يجوز له مسه أو الإمساك به، وبكل فتح لا يجوز لها فتحه، وبكل كلام كتبته لا يجوز لها كتابته، وبكل بطش أو ضرب لا يجوز لها فعله، وبكل حمل حملته لا يجوز لها حمله، وبكل إعداد لمنكر لا يجوز لها إعداده… وهكذا، حتى لا يبقى من الإنسان شيء يستره عن نفسه لم يعفُ الله عنه في إلا فضحته أعضاؤه به، ولكن باب التوبة لا يزال مفتوحًا، فالعاقل من بادر إلى التوبة قبل الهوان والافتضاح، وقبل أن يلقي اللوم على أعضائه كأولئك المجرمين، الذين يقولون لجلودهم: لم شهدتم علينا؟! فتجيبهم: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 21].

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد: فحين تشهد الألسنة والأيدي والأرجل والجلود على أصحابها، فيتوجهون إليها باللوم قائلين لها: لم شهدتم علينا؟! تجيبهم: (أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [فصلت: 21]، (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 23].

هذه هي القاصمة التي أدت إلى هلاكهم، أنهم كانوا في الدنيا يستخفون من الناس بأعمالهم، بل وبنياتهم وبمشاعرهم الآثمة، ولا يستخفون من الله وهو معهم: (اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ) [المجادلة: 19]، فأعضاؤهم توبخهم، فتقول لهم حين يلومونها على الشهادة عليهم: ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه؟! بل كنتم تجاهرون الله بالذنوب والمعاصي ولا تبالون منه في زعمكم؛ لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم: (وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ)، أي هذا الظن الفاسد وتلك الغفلة، هو الذي أتلفكم وأرداكم، فالردى هو الهلاك، (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم.

وقد روى البخاري ومسلم وغيرهما في سبب نزول هذه الآية عن ابن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: كنت مستترًا بأستار الكعبة، فجاء ثلاثة نفر كثير شحم بطونهم، قليل فقه قلوبهم، فتكلموا بكلام لم أسمعه، فقال أحدهم: أترون أن الله يسمع كلامنا هذا؟! فقال الآخر: إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه، وإذا لم نرفعه لم يسمعه، فقال الآخر: إن سمع منه شيئًا سمعه كله. قال: فذكرت ذلك للنبي -صلى الله عليه وسلم- فأنزل الله -عز وجل-: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 22، 23].

قال الحسن -رحمه الله-: ألا إنما عمل الناس على قدر ظنونهم بربهم، فأما المؤمن فأحسن الظن بربه فأحسن العمل، وأما الكافر والمنافق فأساء الظن بالله فأساء العمل، ثم قال: قال الله -تبارك وتعالى-: (وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصَارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [فصلت: 22، 23].

فأوصي نفسي وإياكم -أيها المسلمون- بإحسان الظن بالله؛ فإن الوقوع في المعاصي بلا خوف هو من سوء ظن بالله؛ لأنه قلة يقين بأنه سبحانه يعلم السر وأخفى، فاستحيوا من الله أن يراكم على معصية، وأكرموا الكرام الكاتبين أن يطلعوا منكم على ما يُشين، وتوبوا جميعًا قبل أن لا ينفع الندم، فكل بني آدم خطّاء، ولكن السعيد من بادر بالتوبة قبل فوات الأوان، وقبل أن يطلب أحدكم الرجعة فلا يستجاب له، قال تعالى: (فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ) [فصلت:24]، أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا هم في النار لا محيد لهم عنها، ولا خروج لهم منها، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذارًا فما لهم أعذار، ولا تقال لهم عثرات. وقيل: معنى قوله تعالى: (وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ): أي وإن يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم، وهذا كقوله –تعالى- إخبارًا عنهم: (قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ) [المؤمنون: 106، 107].

اللهم ارزقنا سبيل التوبة والهداية، واعصمنا من سبل الشقاء والضلالة، وأعذنا من شر أنفسنا وأهوائنا، ومن شرور الشياطين وأذنابهم، وباعدنا عن منكرات الأخلاق والأعمال والرياء، اللهم تب على التائبين، واعف عن العصاة المذنبين، وثبت عبادك المهتدين، وجملهم بالإخلاص والتواضع واللين للمؤمنين، والغلظة على الكافرين.

اللهم أرنا الحق حقًّا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، اللهم من أرادنا بسوء فاشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، وكل من ظلمنا أو بغى علينا فقد جعلناك حكمًا بيننا وبينه، يا عزيز يا عليم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.